سورة المؤمنون - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المؤمنون)


        


قلت: ذكر في الحاشية وجوهاً من المناسبة، فقال: لمّا استطرد ذكر الفلك ناسب ذكر نوح إثره، لقوله: {اصنع الفلك}، وأيضاً: هو أبو البشر الثاني، فَذُكِرَ كما ذكر أولاً آدم، في ذكر خلق الإنسان، وأيضاً في ذكر نجاة المؤمنين وفلاحهم، فناسب صدر السورة، وهلاك الكافر وهو ضد المؤمن، كما صرح بذلك في قوله في آخرها: {إنه لا يفلح الكافرون}، وفي النجاة في الفلك مناسبة للنعم المقررة قبل ذكره. اهـ. {وإن كنا لمبتلين}: {إنْ}: مخففة، واسمها: ضمير الشأن، واللام فارقة.
يقول الحق جل جلاله: {ولقد أرسلنا}: وتالله لقد أرسلنا {نوحاً إلى قومه}، وقد مرّ في الأعراف نسبه وكيفية بعثته، {فقال} لقومه حين أُرسل إليهم، متعطفاً عليهم، ومستميلاً لهم إلى الحق: {يا قوم اعبدوا الله} وحده؛ إذ العبادة مع الإشراك لا عبرة بها، فلذلك لم يقيدها هنا، وقيدها في هود، بقوله: {أَن لاَّ تعبدوا إِلاَّ الله} [هود: 26] {ما لكم من إلهٍ غيرهُ} أي: ما لكم من الوجود إله يستحق أن يُعبد غيره، فالرفع على المحل، والجر على اللفظ. {أفلا تتقون}؛ أفلا تخافون عقوبة الله، الذي هو ربكم وخالقكم، إذا عبدتم غيره مما ليس من استحقاق العبادة في شيء، أو: أفلا تخافون عذابه الذي يستوجبه ما أنتم عليه، كما يُفصح عنه قوله تعالى: {إنى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59].
{فقال الملأ الذين كفروا من قومه} أي: أشرافهم لعوامهم: {ما هذا إلا بشرٌ مثلكُم} في الجنس والوصف، يأكل ويشرب مثلكم، من غير فرق بينكم وبينه، {يُريد أن يتفضَّل عليكم} أي: يطلب الفضل عليكم، ويتقدمكم بادعاء الرسالة مع كونه مثلكم، والعجب منهم أنهم رضوا بالألوهية والخضوع للحَجَر، ولم يرضوا بنبوة البشر. ثم قالوا: {ولو شاء الله لأنزل ملائكة} أي: لو شاء الله إرسال الرسل لأرسل رسلاً من الملائكة. وإنما قال: لأنزل ولم يقل: لأرسل؛ لأنَّ إرسال الملائكة لا يكون إلا بطريق الإنزال، فمفعول المشيئة مطلق الإنزال، أي: لو شاء ربنا إنزال شيء من الوحي لأنزل ملائكة يرسلهم إلينا، {ما سمعنا بهذا} أي بمثل هذا الكلام، الذي هو الأمر بعبادة الله وحده، وترك عبادة ما سواه، أو: ما سمعنا بأنَّ البشر يكون رسولاً، أو بمثل نوح عليه السلام في دعوى النبوة، {في آبائنا الأولين} أي: الماضين قبل بعثة نوح عليه السلام، وإنما قالوا ذلك؛ إما من فرط عنادهم، أو لأنهم كانوا في فترة متطاولة، وقيل: معناه: ما سمعنا به أنه نبي، {إنْ هو} أي: ما هو {إلا رجل به جِنَّةٌ} أي جنون، أو جن يخبلونه، ولذلك يقول ما يقول: {فتربصوا به حتى حين} أي: انتظروا واصبروا إلى زمان حتى ينجلي أمره، فإن أفاق من جنونه، وإلا قتلتموه.
{قال ربّ انصرني بما كذَّبونِ}، لمَّا أيس من إيمانهم دعا الله بالانتقام منهم، فالجملة استئناف نشأ عن سؤال، كأنه قيل: فماذا قال عليه السلام، بعدما سمع هذه الأباطيل؟ فقيل: قال، لما رآهم قد أصروا على الكفر والتكذيب، وتمادوا في الغواية والضلال، حتى أيس من إيمانهم بالكلية وقد أوحى إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن: {رب انصرني} بإهلاكهم بالمرة، فهو حكاية إجمالية لقوله: {لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26]. {بما كذَّبون}؛ بسبب تكذيبهم إياي، أو بدل تكذيبهم، كقولك: هذا بذاك، أي: بدل ذاك والمعنى: أبدلني من غم تكذيبهم سلَوة النصر عليهم.
{فأوحينا إليه}؛ أجببنا دعاءه وأوحينا إليه عند ذلك {أَنِ اصنعِ الفُلكَ بأعيننا} أي: ملتبساً بحفظنا وكلاءتنا، كأنَّ معك حُفاظنا يكلؤونك بأعينهم، لئلا يتعرض لك أحد، يفسد عملك، ومنه قولهم: عليه من الله عيون كالئة، {ووَحْينا} أي: أمرنا وتعليمنا إياك صنعتها. رُوي: أنه أوحى إليه أن يصنعها مثل جُؤْجؤ الطائر. وفي القاموس جُؤجؤ- كَهُدْهُد-: الصدرُ. {فإذا جاء أَمْرُنا} أي: عذابنا بأمرنا، {وفار التنُّور} أي: فار الماء من تنور الخبز، فخرج سبب الغرق من موضع الحرق؛ ليكون أبلغ في الإنذار والإعتبار. رُوي أنه قيل لنوح: إذا رأيت الماء يفور من التنور؛ فاركب أنت وأهلك السفينة، فلما نبع الماء من التنور؛ أخبرته امرأته، فركب، وكان التنور تنورَ آدم، فصار إلى نوح، وكان من حجارة. واختلف في مكانه، فقيل: في مسجد الكوفة عن يمين الداخل، وقيل: بالشام، وقيل: بالهند.
فإذا فار {فاسْلُكْ فيها}: فَأَدْخِلْ في السفينة {من كل زوجين اثنين}؛ من كل أمة اثنين مزدوجين، ذكر وأنثى. قال الحسن: لم يحمل نوح في السفينة إلا ما يلد ويبيض، فأما البق والدود والزباب، فلم يحمل منه شيئاً، وإنما يخرج من الطير. اهـ. {و} احمل في السفينة {أهلَك}؛ نساءك وأولادك، أو من آمن معك، {إلا من سبق عليه القولُ منهم} أي: القول من الله بهلاكه، وهو ابنه وإحدى زوجتيه، وإنما جيء بعلى؛ لكون السابق ضاراً، كما جيء باللام في قوله: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى} [الأنبياء: 101]، {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين} [الصافات: 171]؛ لكونه نافعاً، ونحوه: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} [البقرة: 286]، {ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} أي: لا تسألني نجاة الذين كفروا، إنهم مقضى عليهم بالإغراق لا محالة؛ لظلمهم بالإشراك والإصرار، ومَنْ هذا شأنه لا يُشفع له، وكأنه عليه السلام ندم على الدعاء عليهم، حين تحقق هلاكهم، فهَمَّ بمراجعة الحق فيهم؛ شفقة ورحمة، فَنُهي عن ذلك.
ثم قال له: {فإِذا استويتَ أنت ومن معك على الفُلْك}؛ فإذا تمكنتم عليها راكبين {فقل الحمد لله الذي نجَّانا من القوم الظالمين}، أُمر بالحمد على هلاكهم والنجاة منهم على طريق: {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الأنعام: 45]. ولم يقل: فقولوا، وإن كان أهله ومن معه قد استووا معه؛ لأنه نبيهم وإمامهم، فكان قوله قولَهم، مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوة.
{وقل ربِّ أنزلني} في السفينة، أو منها {مُنْزَلاً مباركاً} أي: إنزالاً مباركاً، أو موضع إنزال يستتبع خيراً كثيراً، {وأنت خير المُنزِلين}؛ خير من ينزل في كل خير، أُمر عليه السلام بأن يشفع دعاءه بما يطابقه من ثنائه عليه تعالى، توسلاً به إلى إجابة دعائه، فالبركة في السفينة: النجاة فيها، وبعد الخروج منها: كثرة النسل وتتابع الخيرات، {إِنَّ في ذلك} فيما فعل بنوح وقومه {لآياتِ}: لعبراً ومواعظ، {وإن كنا} أي: وإن الشأن والقصة كنا {لمبتلين}: مُصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد، أو: مختبرين بهذه الآيات عبادنا، لننظر من يعتبر ويذكر، كقوله: {وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 15]. والله تعالى أعلم.
الإشارة: تقدمت إشارة هذه القصة مراراً بتكررها، وفيها تسلية لمن أوذي من الأولياء بقول قبيح أو فعل ذميم. وقال القشيري في قوله: {وقل رب أنزلني منزلاً مباركاً}: الإنزال المبارك: أن تكون بالله ولله على شهود الله، من غير غفلة عن الله، ولا مخالفة لأمر الله. اهـ.


يقول الحق جل جلاله: {ثم أنشأنا من بعدهم}؛ من بعد قوم نوح {قرناً} أي: قوماً {آخرين} هم عادٌ قوم هود، حسبما رُوي عن ابن عباس، ويشهد له قوله تعالى: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69]، ومجيء قصة هود على إثر قصة نوح في الأعراف وهود والشعراء، ونقل ابن عطية عن الطبري: أن المراد بهم ثمود قوم صالح، قال: والترتيب يقتضي قوم عاد، إلاَّ أنهم لم يُهلكوا بالصيحة، بل بالريح، قال في الحاشية: والظاهر أنهم صالح. كما قاله الطبري. وحمل الواحدي الصيحة على صيحة العذاب، فيتجه لذلك أنهم عاد قوم هود، وقد تقرر أن ثمود بعد عاد. ثم قال: وفي السيرة: عادٌ بن عوص بن إرَم بن سام بن نوح، وثمود بن عابر بن أرَم بن سام بن نوح. اهـ.
{فأرسلنا فيهم}، الإرسال يُعَدّى بإلى، ولم يُعَدَّ بها هنا وفي قوله: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فى أُمَّةٍ} [الرعد: 30]، {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ} [الأعراف: 94]؛ لأن الأمة والقرية جعلت موضعاً للإرسال، إيذاناً بأن المرسَل إليهم لم يأتهم من غير مكانهم، بل إنما نشأ بين أظهرهم، كما ينبىء عنه قوله: {رسولاً منهم} أي: من جملتهم نسباً، وهو: هود أو صالح، فإنهما- عليهما السلام- كانا منهم. قائلاً لهم: {أنِ اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيرهُ أفلا تتقون} عذابه، الذي يقتضيه ما أنتم عليه من الشرك والمعاصي.
{وقال الملأُ من قومه}، ذكر مقال قوم هود، في جوابه، في الأعراف وهود بغير واو؛ لأنه على تقدير سؤال سائل، قال: فما قال قومه؟ فقيل: قالوا: كيت وكيت، وهنا مع الواو؛ لأنه عطفٌ لما قالوه على ما قاله الرسول؛ ومعناه: حكاية قولهم الباطل إثر حكاية قول الرسول الحق، وليس بجواب للنبي متصل بكلامه، وجيء بالفاء في قصة نوح عليه السلام؛ لأنه جواب لقوله، واقعٌ عَقِبَه،، أي: وقال الأشراف من قومه {الذين كفروا}، وُصفوا بالكفر؛ ذَماً لهم، وتنبيهاً على غُلوِّهم فيه، {وكذَّبوا بلقاء الآخرة} أي: بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب وغير ذلك، أو بمعادهم إلى الحياة الثانية، {وأترفناهم}: نَعَّمناهم {في الحياة الدنيا} بكثرة الأموال والأولاد، أي: قالوا لأتباعهم، مُضلين لهم: {ما هذا} النبي {إلا بشرٌ مثلُكم} في الصفة والأحوال، والاحتياج إلى القِوام، ولم يقولوا: مثلنا؛ تهويناً لأمره عليه السلام.
ثم فسر المثلية بقوله: {يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون} أي: منه، فحذف؛ لدلالة ما قبله عليه، {ولئن أطعتم بشراً مثلكم} فيما يأمركم به وينهاكم عنه، {إنكم إذاً لخاسرون} بالانقياد لمثلكم، ومن حمقهم أنهم أبَوْا اتِّباع مثلهم وعبدوا أعجز منهم.
{أَيعدُكُمْ أنكم إِذا مِتُّم}- بالكسر والضم-؛ من مات يُمات ويموت، {وكنتم تراباً وعظاماً} نخرة، {أنكم مُخْرَجُون}، فأنكم الثانية، توكيد للأولى؛ للفصل بينهما، والتقدير: أيعدكم أنكم مخرجون بالبعث إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً؟ {هيهات هيهاتَ}، تكرير؛ لتأكيد البُعد، وهو اسم فعل مبني على الفتح، واقع موقع بَعُد، فاعلها مضمر، أي: بعد التصديق أو الوقوع {لِما تُوعدون} من العذاب، أو فاعلها: {ما توعدون}، واللام زائدة، أي بَعُد ما تعدون من البعث، وقيل: ما توعدون من البعث.
وقيل: مبتدأ، وهما اسم للبعد، و{لما توعدون}: خبر، أي: بُعْدٌ بُعْدٌ لما توعدون، {إن}: ما {هِيَ إلا حياتنا الدنيا}، والضمير لا يُعْلَمُ ما يُغْنَى به إلا بما بعده من بيانه، وأصله: إن الحياةُ إلا حياتنا، وأتى بالضمير؛ حذراً من التكرير، أي: لا حياة إلا هذه الحياة التي نحن فيها، ودنت منها، {نموت ونحيا} أي: يموت بعضنا ويولد بعضٌ، إلى انقراض العصر، {وما نحن بمبعوثين} بَعد الموت، {إن}؛ ما {هو إلا رجل افترى على الله كَذِباً} فيما يدَّعيه من الإرسال، وفيما يَعدنا من البعث، {وما نحن له بمؤمنين}: بمصدِّقين بما يقول.
{قال} هود، أو صالح- عليهما السلام- بعدما سلك في دعوتهم كل مسلك، متضرعاً إلى الله- عز وجل-: {ربِّ انصرني} عليهم، وانتقم منهم {بما كذَّبونِ} أي: بسبب تكذيبهم إياي وإصرارهم عليه، {قال} تعالى؛ إجابة لدعائه: {عمَّا قليلٍ} أي: عن زمان قليل، زيدت ما، بين الجار والمجرور؛ لتأكيد معنى القلة، أو نكرة موصوفة، أي؛ عن شيء قليل {ليصبِحُنَّ نادمين} عما فعلوا عن التكذيب، وذلك عند معاينتهم العذاب.
{فأخذتهم الصيحةُ}، لعلهم، حين اصابتهم الريح العقيم، أُصيبوا في تضاعيفها بصيحة هائلة من صوته. أو يراد بها: صرير الريح وصوته. وقد رُوي أن شَدَّاداً حين أتم بناء إرم، سار إليها بأهله، فلما دنا منها بعث الله عليهم صيحة من السماء، فهلكوا، وقيل: الصيحة: العذاب المصطلِم، قال الشاعر:
صَاحَ الزَّمانُ بآلِ فُدَكٍ صيَحةً *** خَرُّوا لشِدَّتها على اْالأَذْقَانِ
وإذ قلنا: هم قوم صالح، فالصيحة صيحة جبريل عليه السلام، صاح عليهم فدمرهم. وقوله: {بالحق} أي: بالعدل من الله، يقال: فلان يقضي بالحق، أي بالعدل، أو: أخذتهم بالحق، أي: بالأمر الثابت الذي لا دفاع له، {فجعلناهم غُثاء} أي: كغثاء السيل، وهو ما يحمله من الورق والحشيش، شبههم في دمارهم بالغثاء، وهو ما يرميه السيل، من حيث أنهم مَرْمِي بهم في كل جانب وسَهْب. {فبُعداً}: فهلاكاً، يقال بَعُدَ بُعْداً، أي: هلك هلاكاً، وهو من المصادر المنصوبة بأفعال لا تظهر أفعالها، أي: فسحقاً {للقوم الظالمين}، وهو إخبار، أو دعاء، واللام؛ لبيان من دُعي عليه بالبُعد، كقوله: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23]. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من عادة الحق- سبحانه-، إذا أكب الناس على دنياهم، واتخذوا إلههم هواهم، بعث من يذكرهم بالله، فيقول لهم: اعبدوا الله، ما لكم من إله غيره، أي: أفردوه بالمحبة، واقصدوه بالوجهة، فما عبدَ الله من عبد هواه، فيقول المترفون، وهم المنهمكون في الغفلة، المحجوبون بالنعمة عن المنعم، الذين اتسعت دائرة حسهم: ما هذا الذي يعظكم، ويريد أن يخرجكم عن عوائدكم، ألا بشر مثلكم، يأكل مما تأكلون، ويشرب مما تشربون، وما دَروا أنَّ وصف البشرية لا ينافي وجود الخصوصية، فإذا تمادوا في غفلتهم، وأيس من هدايتهم، ربما دعا عليهم، فأصبحوا نادمين، حين لا ينفعهم الندم، وذلك عند نزول هواجم الحِمَامِ. وبالله التوفيق.


قلت: القرن: أهل العصر، سُموا به؛ لِقران بعضهم البعض، و{تترا}: حال، فمن قرأه بالألف فهو كسكرى، وهو من الوتر، واحداً بعد واحد، فالتاء الأولى بدل من الواو، وأصله: وَترى، كتراث وتقوى، والألف للتأنيث، باعتبار أن الرسل جماعة، ومن نَوَّنَه جعله كأرطى ومعزى، فيقال: أرطى ومعزى، وقيل: مصدر بمعنى فاعل، أي: متتابعين.
يقول الحق جل جلاله: {ثم أنشأنا من بعدهم} أي: من بعد قوم هود، {قروناً آخرين}؛ قوم صالح ولوط وشعيب وغيرهم، {ما تسبق من أمة}، {مِنْ} صلة، أي: ما تتقدم أمة من الأمم المهلكة {أجلَها} الذي عُيِّن لهلاكها في الأزل، {وما يستأخرون} عنه ساعة. {ثم أرسلنا رسلَنا}، عطف على {أنشأنا}، على معنى أن إرسالهم متراخ عن إنشاء القرون المذكورة، وما بينهما اعتراض، والمعنى: ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين، قد أرسلنا إلى كل قرن منهم رسولاً خاصاً به، والفصل بين الجملتين بالجملة المتعرضة الناطقة بعدم تقدم الأمم من أجلها المضروب لهلاكهم؛ للمسارعة إلى بيان هلاكهم على وجهٍ إجمالي.
وقوله: {تَتْرَى} أي: متواترين واحداً بعد واحد، أو متتابعين يتبع بعضهم بعضاً، {كلما جاء أمةً رسولها كذبوه}، الرسول يلابس المرسِل والمرسلَ إليه، والإضافة تكون بالملابسة، فأضافهم أولاً إلى نون العظمة، وهنا إلى المرسل إليهم؛ للإشعار بكمال شناعتهم وضلالتهم، حيث كذبت كلُّ أمةٍ رسولها المعين لها، وعبَّر عن التبليغ بالمجيء؛ للإيذان بأنهم كذبوه في الملاقاة الأولى، {فأتبعنا بعضَهم بعضاً} في الهلاك، كما تبع بعضهم بعضاً في الكفر والتكذيب، الذي هو سبب الهلاك، {وجعلناهم أحاديثَ}؛ أخبار، يُسمر بها ويُتعجب منها، أي: لم يبق منهم إلا حكايات يعتبر بها المعتبرون، والأحاديث يكون اسم جمع للحديث، ومنه: أحاديث النبي- عليه الصلاة والسلام- ويكون جمعاً للأحدوثة، وهي ما يتحدث بها الناس؛ تلهياً وتعجباً، وهو المراد هنا {فبعداً لقوم لا يؤمنون} به وبرسله اقتصر هنا على عدمإيمانهم وأما القرون الأولى فحيث نقل عنهم ما مرَّ من العتو وتجاوز الحد في الكفر والعدوان وصفهم بالظلم. والله تعالى أعلم وأحكم.
الإشارة: كل ما حكى الله تعالى عن القرون الماضية والأمم السابقة، فالمراد ترهيب هذه الأمة المحمدية، وإزعاجٌ لها عن أسباب الهلاك، وإنهاض لها إلى العمل الصالح، لتكون أحاديث حِساناً بين الأمم، فكل إنسان ينبغي له أن يجتهد في تحصيل الكمالات العلمية والعملية، ليكون حديثاً حسناً لمن بعده، كما قال القائل:
مَا الْمَرءُ إلا حديثٌ من بَعدِه *** فَكنْ حَديثاً حَسَناً لِمَن وَعَا
وقال آخر:
ومَا الْمَرءُ إلا كالشَّهابِ وضَوْؤهُ *** يَحورُ رَماداً بَعْدَما هو سَاطِعُ
ومَا المَالُ والأَهلْونَ إلا وديعةٌ *** ولا بُدَّ يوماً أن تُردَّ الْودَائِعُ
وبالله التوفيق.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7